الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
الخامس: لو كانت السماء مبسوطة لكان القمر عندما يكون فوق رءوسنا على المسامتة أقرب إلينا وعندما يكون على الأفق أبعد منا لأن العموم أصغر من القطر والوتد، وكذلك في الشمس والكواكب كان يجب أن يرى أكبر لأن القريب يرى أكبر وليس كذلك فإن قيل جاز أن يكون وهو على الأفق على سطح السماء وعندما يكون على مسامتة رءوسنا في بحر السماء غائرًا فيها لأن الخرق جائز على السماء، نقول لا تنازع في جواز الخرق لكن القمر حينئذٍ تكون حركته في دائرة لا على خط مستقيم وهو غرضنا ولأنا نقول لو كان كذلك لكان القمر عند أهل المشرق وهو في منتصف نهارهم أكبر مقدارًا لكونه قريبًا من رءوسهم ضرورة فرضه على سطح السماء الأدنى وعندنا في بحرالسماء، وبالجملة الدلائل كثيرة.والإكثار منها يليق بكتب الهيئة التي الغرض منها بيان ذلك العلم، وليس الغرض في التفسير بيان ذلك غير أن القدر الذي أوردناه يكفي في بيان كونه فلكًا مستديرًا.المسألة الرابعة:هذا يدل على أن لكل كوكب فلكًا، فما قولك فيه؟ نقول: أما السبعة السيارة فلكل فلك، وأما الكواكب الآخر فقيل للكل فلك واحد، ولنذكر كلامًا مختصرًا في هذا الباب من الهيئة حيث وجب الشروع بسبب تفسير الفلك فنقول: قيل إن للقمر فلكًا لأن حركته أسرع من حركة الستة الباقية، وكذلك لكل كوكب فلك لاختلاف سيرها بالسرعة والبطء والممر، فإن بعضها يمر في دائرة وبعضها في دائرة أخرى حتى في بعض الأوقات يمر بعضها ببعض ولا يكسفه وفي بعض الأوقات يكسفه فلكل كوكب فلك، ثم إن أهل الهيئة قالوا فكل فلك هو جسم كرة وذلك غير لازم بل اللازم أن نقول لكل فلك هو كرة أو صفحة أو دائرة يفعلها الكوكب بحركته، والله تعالى قادر على أن يخلق الكوكب في كرة يكون وجوده فيها كوجود مسمار مغرق في ثخن كرة مجوفة ويدير الكرة فيدور الكوكب بدوران الكرة، وعلى مذهب أرباب الهيئة حركة الكواكب السيارة على هذا الوجه، وكذلك قادر على أن يخلق حلقة يحيط بها أربع سطوح متوازنة بها فإنها أربع دوائر متوازية كحجر الرحى إذا قورناه وأخرجنا من وسطه طاحونة من طواحين اليد ويبقى منه حلقة يحيط بها سطوح ودوائر كما ذكرنا وتكون الكواكب فيه وهو فلك فتدور تلك الحلقة وتدير الكوكب، والحركة على هذا الوجه وإن كانت مقدورة لكن لم يذهب إليه أحد ممن يعتبر وكذلك هو قادر على أن يجعل الكواكب بحيث تشق السماء فتجعل دائرة متوهمة كما لو فرضت سمكة في الماء على وجهه تنزل من جانب وتصعد إلى موضع من الجانب الآخر على استدارة وهذا هوالمفهوم من قوله تعالى: {وَكُلٌّ في فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} والظاهر أن حركة الكواكب على هذا الوجه، وأرباب الهيئة أنكروا ذلك وقالوا لا تجوز الحركة على هذا الوجه لأن الكوكب له جرم فإذا شق السماء وتحرك فإما أن يكون موضع دورانه ينشق ويلتئم كالماء تحركه السمكة أو لا ينشق ولا يلتئم، بل هناك خلاء يدور الكوكب فيه، لكن الخلاء محال والسماء لا تقبل الشق والالتئام، هذا ما اعتمدوا عليه، ونحن نقول كلاهما جائز.أما الخلاء فلا يحتاج إليه ههنا، لأن قوله تعالى: {يَسْبَحُونَ} يفهم منه أنه بشق والتئام، وأما امتناع الشق والالتئام فلا دليل لهم عليه وشبهتهم في المحدد للجهات وهي هناك ضعيفة، ثم إنهم قالوا على ما بينا تخرج الحركات وبه علمنا الكسوفات، ولو كان لها حركات مختلفة لما وجب الكسوف في الوقت الذي يحكم فيه بالكسوف والخسوف وذلك لأنا نقول للشمس فلكان أحدهما: مركزه مركز العالم ثانيهما: مركزه فوق مركز العالم وهو مثل بياض البيض بين صفرته وبين القيض والشمس كرة في الفلك الخارج المركز تدور بدورانه في السنة دورة، فإذا جعلت في الجانب الأعلى تكون بعيدة عن الأرض فيقال إنها في الأوج، وإذا حصلت في الجانب الأسفل تكون قريبة من الأرض فتكون في الحضيض، وأما القمر فله فلك شامل لجميع أجزائه وأفلاكه وفلك آخر هو بعض من الفلك الأول محيط به كالقشرة الفوقانية من البصلة وفلك ثالث في الفلك التحتاني كما كان في الفلك الخارج المركز في فلك الشمس وفي الفلك الخارج المركز كرة مثل جرم الشمس وفي الكرة القمر مركوز كمسمار في كرة مغرق فيها ويسمى الفلك الفوقاني الجوزهر والخارج المركز الفلك الحامل والفلك التحتاني الذي فيه الفلك الحامل الفلك المائل والكرة التي في الحامل تسمى فلك التدوير، وكذلك قالوا في الكواكب الخمسة الباقية من السيارات غير أن الفوقاني الذي سموه فلك الجوزهر لم يثبتوه لها فأثبتوا أربعة وعشرين فلكًا، الفلك الأعلى وفلك البروج، ولزحل ثلاثة أفلاك الممثل والحامل وفلك التدوير، وللمشتري ثلاثة كما لزحل، وللمريخ كذلك ثلاثة، وللشمس فلكان الممثل والخارج المركز، وللزهرة ثلاثة أفلاك كما للعلويات، ولعطارد أربعة أفلاك الثلاثة التي ذكرناها في العلويات، وفلك آخر يسمونه المدير، وللقمر أربعة أفلاك والرابع يسمونه فلك الجوزهر والمدير ليس كالجوزهر لأن المدير غير محيط بأفلاك عطارد وفلك الجوزهر محيط، ومنهم من زاد في الخمسة في كل فلك فلكين آخرين وجعل تدويراتها مركبة من ثلاثة أفلاك، وقالوا إن بسبب هذه الأجرام تختلف حركات الكواكب ويكون لها عروض ورجوع واستقامة وبطء وسرعة.هذا كلامهم على سبيل الاقتناص والاقتصار ونحن نقول لا يبعد من قدرة الله خلق مثل ذلك، وأما على سبيل الوجوب فلا نسلم ورجوعها واستقامتها بإرادة الله وكذلك عرضها وطولها وبطؤها وسرعتها وقربها وبعدها هذا تمام الكلام.المسألة الخامسة:قال المنجمون الكواكب أحياء بدليل أنه تعالى قال: {يَسْبَحُونَ} وذلك لا يطلق إلا على العاقل، نقول إن أردتم القدر الذي يصح به التسبيح فنقول به لأنه ما من شيء من هذه الأشياء إلا وهو يسبح بحمد الله وإن أردتم شيئًا آخر فلم يثبت ذلك والاستعمال لا يدل كما في قوله تعالى في حق الأصنام {مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ} [الصافات: 92] وقوله: {ألا تنطقون}.{وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41)}.ولها مناسبة مع ما تقدم من وجهين أحدهما: أنه تعالى لما من بإحياء الأرض وهي مكان الحيوانات بين أنه لم يقتصر بل جعل للإنسان طريقًا يتخذ من البحر خيرًا ويتوسطه أو يسير فيه كما يسير في البر وهذا حينئذٍ كقوله: {وحملناهم فِي البر والبحر} [الإسراء: 70] ويؤيد هذا قوله تعالى: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42] إذا فسرناه بأن المراد الإبل فإنها كسفن البراري وثانيهما: هو أنه تعالى لما بين سباحة الكواكب في الأفلاك وذكر ما هو مثله وهو سباحة الفلك في البحار، ولها وجه ثالث: وهي أن الأمور التي أنعم الله بها على عباده منها ضرورية ومنها نافعة والأول للحاجة والثاني للزينة فخلق الأرض وإحياؤها من القبيل الأول فإنها المكان الذي لولاه لما وجد الإنسان ولولا إحياؤها لما عاش والليل والنهار في قوله: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الليل} [يس: 37] أيضًا من القبيل الأول، لأنه الزمان الذي لولاه لما حدث الإنسان، والشمس والقمر وحركتهما لو لم تكن لما عاش، ثم إنه تعالى لما ذكر من القبيل الأول آيتين ذكر من القبيل الثاني وهوالزينة آيتين إحداهما: الفلك التي تجري في البحر فيستخرج من البحر ما يتزين به كما قال تعالى: {وَمِن كُلّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الفلك فيه مواخر} [فاطر: 12] وثانيتهما: الدواب التي هي في البر كالفلك في البحر في قوله: {وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 42] فإن الدواب زينة كما قال تعالى: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة} [النحل: 8] وقال: {وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ} [النحل: 6] فيكون استدلالًا عليهم بالضروري والنافع لا يقال بأن النافع ذكره في قوله: {جنات مّن نَّخِيلٍ وأعناب} [يس: 34] فإنها للزينة لأنا نقول ذلك حصل تبعًا للضروري، لأن الله تعالى لما خلق الأرض منبتة لدفع الضرورة وأنزل الماء عليها كذلك لزم أن يخرج من الجنة النخيل والأعناب بقدرة الله، وأما الفلك فمقصود لا تبع، ثم إذا علمت المناسبة ففي الآيات أبحاث لغوية ومعنوية:أما اللغوية: قال المفسرون الذرية هم الآباء أي حملنا آباءكم في الفلك والألف واللام للتعريف أي فلك نوح وهو مذكور في قوله: {واصنع الفلك} [هود: 37] ومعلوم عند العرب فقال الفلك، هذا قول بعضهم، وأما الأكثرون فعلى أن الذرية لا تطلق إلا على الولد وعلى هذا فلابد من بيان المعنى، فنقول الفلك إما أن يكون المراد الفلك المعين الذي كان لنوح، وإما أن يكون المراد الجنس كما قال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ} [الزخرف: 12] وقال تعالى: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] وقال تعالى: {فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك} [العنكبوت: 65] إلى غير ذلك من استعمال لام التعريف في الفلك لبيان الجنس، فإن كان المراد سفينة نوح عليه السلام ففيه وجوه الأول: أن المراد إنا حملنا أولادكم إلى يوم القيامة في ذلك الفلك، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل ولا عقب وعلى هذا فقوله: {حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} بدل قوله: حملناهم إشارة إلى كمال النعمة أي لم تكن النعمة مقتصرة عليكم بل متعدية إلى أعقابكم إلى يوم القيامة، هذا ما قاله الزمخشري، ويحتمل عندي أن يقال على هذا إنه تعالى إنما خص الذرية بالذكر، لأن الموجودين كانوا كفارًا لا فائدة في وجودهم فقال: {حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي لم يكن الحمل حملًا لهم، وإنما كان حملًا لما في أصلابهم من المؤمنين كما أن من حمل صندوقًا لا قيمة له وفيه جواهر إذا قيل له لم تحمل هذا الصندوق وتتعب في حمله وهو لا يشتري بشيء؟ يقول: لا أحمل الصندوق وإنما أحمل ما فيه الثاني: هو أن المراد بالذرية الجنس معناه حملنا أجناسهم وذلك لأن ولد الحيوان من جنسه ونوعه والذرية تطلق على الجنس ولهذا يطلق على النساء نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل الذراري، أي النساء وذلك لأن المرأة وإن كانت صنفًا غير صنف الرجل لكنها من جنسه ونوعه يقال ذرارينا أي أمثالنا فقوله: {أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ} أي أمثالهم وآباؤهم حينئذٍ تدخل فيهم الثالث: هو أن الضمير في قوله: {وَءَايَةٌ لَّهُمُ} عائد إلى العباد حيث قال: {ياحسرة عَلَى العباد} [يس: 30] وقال بعد ذلك: {وءَايَةٌ لَّهُمُ الأرض} [يس: 33] وقال: {وَءَايَةٌ لَّهُمُ الليل} [يس: 37] {وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} إذا علم هذا فكأنه تعالى قال: وآية للعباد أنا حملنا ذريات العباد ولا يلزم أن يكون المراد بالضمير في الموضعين أشخاصًا معينين كما قال تعالى: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} [النساء: 29] ويريد بعضكم بعضًا، وكذلك إذا تقاتل قوم ومات الكل في القتال، يقال هؤلاء القوم هم قتلوا أنفسهم، فهم في الموضعين يكون عائدًا إلى القوم ولا يكون المراد أشخاصًا معينين، بل المراد أن بعضهم قتل بعضًا، فكذلك قوله تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ} أي آية لكل بعض منهم أنا حملنا ذرية كل بعض منهم، أو ذرية بعض منهم.وأما إن قلنا إن المراد جنس الفلك فهو أظهر، لأن سفينة نوح لم تكن بحضرتهم ولم يعلموا من حمل فيها، فأما جنس الفلك فإنه ظاهر لكل أحد، وقوله تعالى في سفينة نوح: {وجعلناها ءايَةً للعالمين} [العنكبوت: 15] أي بوجود جنسها ومثلها، ويؤيده قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفلك تَجْرِى في البحر بِنِعْمَتِ الله لِيُرِيَكُمْ مّنْ ءاياته إِنَّ في ذَلِكَ لأيات لّكُلّ صبّار شكور} [لقمان: 31] فنقول قوله تعالى: {حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} أي ذريات العباد ولم يقل حملناهم، لأن سكون الأرض عام لكل أحد يسكنها فقال: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة} إلى أن قال: {فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ} [يس: 33] لأن الأكل عام، وأما الحمل في السفينة فمن الناس من لا يركبها في عمره ولا يحمل فيها، ولكن ذرية العباد لابد لهم من ذلك فإن فيهم من يحتاج إليها فيحمل فيها.المسألة الثانية:جعل الفلك تارة جمعًا حيث قال: {وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ} [فاطر: 12] جمع ماخرة وأخرى فردًا حيث قال: {فِى الفلك المشحون} نقول فيه تدقيق مليح من علم اللغة، وهو أن الكلمة قد تكون حركتها مثل حركة تلك الكلمة في الصورة، والحركتان مختلفتان في المعنى مثالها قولك: سجد يسجد سجودًا للمصدر وهم قوم سجود في جمع ساجد، تظن أنهما كلمة واحدة لمعنيين وليس كذلك، بل السجود عند كونه مصدرًا حركته أصلية إذا قلنا إن الفعل مشتق من المصدر وحركة السجود عند كونه للجمع حركة متغيرة من حيث إن الجمع يشتق من الواحد، وينبغي أن يلحق المشتق تغيير في حركة أو حرف أو في مجموعهما، فساجد لما أردنا أن يشتق منه لفظ جمع غيرناه، وجئناه بلفظ السجود، فإذًا السجود للمصدر والجمع ليس من قبيل الألفاظ المشتركة التي وضعت بحركة واحدة لمعنيين، إذا عرفت هذا فنقول الفلك عند كونه واحدًا مثل قفل وبرد، وعند كونها جمعًا مثل خشب ومرد وغيرهما، فإن قلت فإذا جعلته جمعًا ماذا يكون واحدها؟ نقول جاز أن يكون واحدها فلكة أو غيرها مما لم يستعمل كواحد النساء حيث لم يستعمل، وكذا القول في: {إِمَامٍ مُّبِينٍ} [يس: 12] وفي قوله: {نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} [الإسراء: 71] أي بأئمتهم عند قوله تعالى: {إِمَامٍ مُّبِينٍ} إما كزمام وكتاب وعند قوله تعالى: {كُلَّ أُنَاسٍ بإمامهم} إمام كسهام وكرام وجعاب وهذا من دقيق التصريف وأما المعنوية: فنذكرها في مسائل:المسألة الأولى:قال ههنا: {حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} من عليهم بحمل ذريتهم، وقال تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَا الماء حملناكم في الجارية} [الحاقة: 11] من هناك عليهم بحمل أنفسهم، نقول لأن من ينفع المتعلق بالغير يكون قد نفع ذلك الغير، ومن يدفع الضرر على المتعلق بالغير لا يكون قد دفع الضرر عن ذلك الغير، بل يكون قد نفعه مثاله من أحسن إلى ولد إنسان وفرحه فرح بفرحه أبوه، وإذا دفع واحد الألم عن ولد إنسان يكون قد فرح أباه ولا يكون في الحقيقة قد أزال الألم عن أبيه، فعند طغيان الماء كان الضرر يلحقهم فقال دفعت عنكم الضرر، ولو قال دفعت عن أولادكم الضرر لما حصل بيان دفع الضرر عنهم، وههنا أراد بيان المنافع فقال: {حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ} لأن النفع حاصل بنفع الذرية ويدلك على هذا أن هاهنا قال: {فِى الفلك المشحون} فإن امتلاء الفلك من الأموال يحصل بذكره بيان المنفعة، وأما دفع المضرة فلا، لأن الفلك كلما كان أثقل كان الخلاص به أبطأ وهنالك السلامة، فاختار هنالك ما يدل على الخلاص من الضرر وهو الجري، وههنا ما يدل على كمال المنفعة وهو الشحن، فإن قيل قال تعالى: {وحملناهم في البر والبحر} [الإسراء: 70] ولم يقل: وحملنا ذريتهم مع أن المقصود في الموضعين بيان النعمة، لا دفع النقمة، نقول لما قال: {فِى البر والبحر} عم الخلق، لأن ما من أحد إلا وحمل في البر أو البحر، وأما الحمل في البحر فلم يعم، فقال إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره من الأولاد والأقارب والإخوان والأصدقاء.المسألة الثانية:قوله: {المشحون} يفيد فائدة أخرى غير ما ذكرنا وهي أن الآدمي يرسب في الماء ويغرق، فحمله في الفلك واقع بقدرته، لكن من الطبيعيين من يقول الخفيف لا يرسب في الماء، لأن الخفيف يطلب جهة فوق فقال: {الفلك المشحون} أثقل من الثقال التي ترسب، ومع هذا حمل الله الإنسان فيه مع ثقله، فإن قالوا ذلك لامتناع الخلاء نقول قد ذكرنا الدلائل الدالة على جواز الخلاء في الكتب العقلية، فإذن ليس حفظ الثقيل فوق الماء إلا بإرادة الله.المسألة الثالثة:قال تعالى: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الأرض} [يس: 33] وقال: {وَءايَةٌ لَّهُمُ الليل} [يس: 37] ولم يقل وآية لهم الفلك جعلناها بحيث تحملهم، وذلك لأن حملهم في الفلك هو العجب.أما نفس الفلك فليس بعجب لأنه كبيت مبني من خشب.وأما نفس الأرض فعجب ونفس الليل عجب لا قدرة عليهما لأحد إلا الله.
|